العالم العربي

کيف أصبحت سوريا بعد خمس سنوات من الحرب؟

 

14/3/2016
کانت لحظاتها الأولی خاطفة وقصيرة لکنها کانت مهمة، شابّات يخرجن لافتات احتجاجية من حقائبهن في شارع مزدحم بالعاصمة دمشق، ثم سرعان ما يتراجعن، وصبية يرسمون غرافيتي علی حائط مدرسة بمدينة درعا الجنوبية.
 
وبعد خمس سنوات، تبقی الانتفاضة السورية الآن الأطول وأکثر الصراعات شراسة فيما أطلق عليه في البداية علی نحو خيالي الربيع العربي.
 
وبات الکثير من النشطاء الشباب، الذين رفعوا في البداية أصواتهم طلبا للإصلاح السياسي، الآن محبطين أو معتقلين أو مشردين أو موتی.
 
وخفتت هتافاتهم منذ زمن بعيد بسبب زئير حرب صمّت الآذان وخلقت فصائل معارضة عديدة ضد الجيش السوري ومليشياته.
 
وعلی الجانبين، تدخلت أطراف خارجية کانت هي الأضخم علی الإطلاق في أي حرب اندلعت في أي مکان، وهناک ظهر تنظيم “الدولة الإسلامية”.
 
فالحرب السورية الآن هي حرب جميع الأطراف.
 
“الجميع خائفون”
 
کانت سوريا، قبل الحرب، دولة عربية ذات دخل متوسط تتميز بحسن الضيافة، وروعة أکلاتها، وسحرها الأسطوري، وکذلک قمع نظامها السيء السمعة.
 
وکانت سوريا في فترة التسعينيات، عشية السقوط المفاجئ للاتحاد السوفيتي، دولة يقال لي عنها باستمرار إن “الثورة ليست لنا، نحن نريد تطوير سوريا”. ومؤخرا، اعترف لي مسؤول حکومي سابق بأن ذلک کان يعني أن “التغيير بطيء، بطيء للغاية”.
 
وعلی مدار خمس سنوات من إعداد التقارير عن مرحلة مذهلة في دولة استثنائية، کانت اللحظات القصيرة تعني قصصا أکبر بکثير.
 
وفي عام 2011 وسط حشود وقفت أمام مسجد بعد صلاة الجمعة، دفع شاب غاضب برسالة إلی بواسطة يد زميله تقول: “شکرا لکم. لکن لا يستطيع أحد منا مقابلتکم لأن الجيش في الشارع، فکل الشعب خائف.”
 
وهمس آخر في أذني برسالة مقتضبة “انظرِي إلی الطريق”، بينما تسلل رجال المخابرات عبر الحشود في مدينة برزة المجاورة. فعلی الطريق کان الجنود واقفين في انتظار أي تحرک والقناصة علی مرمی البصر.
 
وبعد ستة أشهر، بات السوريون خائفين حتی من الحديث عن عدم خوفهم. ففي نفس الطريق، لوح لنا السکان داخل حارات مکتظة بالمتظاهرين. وفي داخلها، ظهر منزل يستخدمه الجيش السوري الحر ممطرا بالرصاص وتشتعل فيه النيران.
 
وبعد ستة أشهر أخری، أغلق ذلک الطريق وبات ساکنا. وعاد الجيش إلی مهامه.
 
جنازات ومذابح
 
ومع مضي السنوات، تحول زخم المعرکة بين أطرافها. فالکل دفع الثمن.
 
ففي عام 2012 في محافظة اللاذقية الشهيرة بتلالها، وهي قلب الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد، کانت القری تخرج بأکملها يوميا تقريبا، وأحيانا ثلاث مرات في اليوم الواحد، لدفن أحد الجنود العائدين في نعوش من جبهات القتال.
 
وسأل زميلي فيل غودوين، الذي صوّر تقاريرنا في معظم الرحلات، رجلا تخلف عند أحد القبور کيف لشعب ودود أن ينحدر إلی مثل هذا الظلام؟ فأجاب متحسرًا: “هناک وحش کاسر داخل کل واحد منا.”
 
وبات الأسوأ في سوريا أسوأ من أن يتخيله شخص.
 
وفي عام 2013 في قرية الحصوية، حيث تواترت الأنباء عن وقوع مجزرة، فتحنا باب مجمع سکني مترامي الأطراف لنجد منازل من الأشباح.
 
وامتدت الجثث المتفحمة داخل الغرف وانزلق بعضها عند المداخل، لتترک حيث أطلق عليها الرصاص وأحرقت. وبقيت الملابس المغسولة معلقة علی الحبال والطعام في الفرن.
 
وألقی الجنود الذين رافقونا بالمسؤولية علی مسلحي جبهة النصرة، لکن رجلا قرويا همس قائلا إن هؤلاء عناصر من مليشيا مؤيدة للحکومة “تصرفت دون أوامر”.
 
وأصبحت الحقيقة في سوريا صعب العثور عليها کالهواء.
 
وفي بعض الأحيان، کانت هناک مذبحة کل أسبوع تقريبا. وفي کل حادثة، يعيش شخص بحقيقة ما حدث له. لکن العقاب سيأتي يوما ما.
 
وانتشرت جميع الأسلحة، ونشر جميع الجنود، ومحيت أحياء بأکملها، واستخدمت الأسلحة الکيمياوية، حتی الأطفال عذبوا.
 
تکتيکات التجويع
 
وکان أبسط أنواع الأسلحة التي استخدمت في هذه الحرب هو الغذاء.
 
وقطعت کل الأطراف إمدادات الغذاء والماء والدواء بحثا عن النفوذ.
 
وحاول الشاب کفاح (13 عاما) إخفاء دموعه عندما قابلناه في مخيم اليرموک للاجئين الفلسطينيين في عام 2014، لکنه سرعان ما انفجر باکيا: “ليس هناک خبز.”
 
وقال مسؤول تابع للأمم المتحدة إنه اضطر إلی بذل مزيد من الجهد لإقناع الأطراف المتصارعة بأن دقيق القمح لا يستخدم في صناعة القنابل.
 
لکن الرئيس الأمريکي باراک أوباما، حسبما صرح مسؤول کبير في إدارته، “عارض تکثيف التدخل العسکري في سوريا معارضة شديدة”.
 
ومع عدم سيطرة واشنطن علی الوضع بصورة کاملة، ساندت دول عربية وترکيا عدة جماعات لتحقيق عدة أهداف. وفي المقابل، تلقی الرئيس بشار الأسد الدعم من أشد الموالين له، من بينهم روسيا وإيران وحزب الله اللبناني.
 
وفي اليوم التالي مباشرة من الانتصار الاستراتيجي في مدينة القصير عام 2013، لم يخف مقاتلو حزب الله وجودهم أو فخرهم. وبعد سؤالي لبعض مسلحي حزب الله عن مدی “شدة المعارک” أجاب أحدهم: “أسهل من عصر الليمون”.
 
العودة إلی درعا
 
وبعد خمس سنوات، أعلنت هدنة نادرة، وإن کانت هشة، فقط لأن الأطراف الخارجية قررت في النهاية تقديم فرصة ضئيلة للسلام.
 
وعدنا في هذا الشهر إلی مدينة درعا، وهي منطقة زراعية متواضعة دفعت لتتصدر عناوين أحداث تاريخية، لنجد مدينة مزقتها الحرب.
 
وتحولت الاحتجاجات غير المسبوقة عام 2011 إلی أبرز هجمة شنتها قوات المتمردين المعروفة باسم الجبهة الجنوبية لتسيطر علی المدينة الصيف الماضي.
 
وأظهر لنا محافظ درعا، اللواء محمد خالد الهنوس، وهو أول من قابلناه عام 2011، طوابق ونوافذ دمرتها الصورايخ.
 
واعترف الهنوس بـ”بوقوع الحکومة في بعض الأخطاء”، لکنه أصر علی أن المسؤولية تقع علی عاتق الطرف الآخر، وقال: “ثورتهم المزيفة دمرت بلادنا وقسمتها.”
 
واتصلنا عبر الهاتف بمعلمة تدعی زهرة بمحافظة درعا التي تقع تحت سيطرة المتمردين. وقالت زهرة إن “الکثير دمر هنا، لکن الثورة کانت أمرا حتميا … وفر الکثيرون لأن رجلا واحدا يريد أن يبقی في الحکم”.
 
فالتحدي وانعدام الثقة ظلا کما هما لم يتغيرا.
 
فسوريا الآن دولة أخری، وفر ملايين السوريين مع أولادهم سعيا في بدء حياة جديدة في مکان ما.
 
لکن سوريا لم تضِع حتی الآن.
 
وفي مرحلة ما بين نظام وثورة، قد تبزغ سوريا جديدة، بإرثها القديم، من ذلک الحطام، لکن هذا سيحدث فقط إذا توقفت الحرب عن سرقة مستقبلها.
المصدر: ايلاف

زر الذهاب إلى الأعلى